هنا أتذكّر قصة وإن كانت تميل إلى الخيال، إلاَّ أنها تُعبر عن طبيعة البشر المُتذمّرة، التي كثيراً ما تعترض على سياسة الله دون أن تعرف حكمته، أمَّا القصة فتقول:
كان رجل دائم التذمّر على الله ففي ليلة ظهر له ملاك وقال له: غداً سيأتى إليك شخص فاخرج معه وتأمّل فيما يحدث، ولا تُعلّق على شيء مما ترى، ففى الصباح طرق بابه إنسان فرحّب به ثم خرج معه، ودخلا بيت رجل فقير لم يكن يملك سوى ملعقة ذهب، فأكرمّهما لكنَّ الرجل بدلاً من أن يُكافئه، سرق الملعقة الذهب وخرج! ثم ذهبا بعد ذلك لرجل غنيّ احتقرهما، لكنَّ الرجل أهداه الملعقة الذهب! ثم ودَّعه ودخلا كوخ رجل رحب بهما، لكنَّه وهو خارج أشعل ناراً فاحترق الكوخ وما بداخله! ثم دخلا بيتاً كان صاحبه لا يملك سوى ابن، ومن شدة احترامه أرسله معهما ليُعرّفهما الطريق، لكن على غير المتوقع أمسك الرجل بالطفل وأغرقه في البحر، كل ذلك يحدث والرجل في ذهول! ولم يهدأ إلاَّ بعد أن أخذ الرجل الآخر يُفسّر له هذه المواقف الغريبة، فماذا قال له؟
الرجل الأول الذي دخلنا بيته تقيّاً، لكنَّ الملعقة الذهب التي كانت عنده اشتراها من رجل سرقها من عند الملك، ورجال الملك يبحثون عنها وسيقتلون من يجدوها عنده، ولهذا السبب سَرَقتْ الملعقة من عند الرجل التقي الكريم، وأعطيتها للرجل الشرير البخيل الذى أهاننا، حتى إذا وجدوها عنده يقتلونه فيموت بشره، والرجل الثالث الذي حرقنا كوخه كريماً، وأراد الله أن يُعطيه مالاً ليُحسن به على الفقراء، ولهذا حَرَقتُ الكوخ لكي عندما يحفر ليضع أساس بيت جديد، يجد تحت الكوخ كنزاً مخفيّاً يستخدمه في أعمال الخير، أمَّا الرجل الرابع الذى أغرقتْ ابنه فالله بعلمه السابق يعرف أنَّ الطفل كان سيعيش في الفساد، ولهذا أراد أن يحفظ اسم أبيه طاهراً، فأمات الابن حتى لا تتلوث سمعة الأب، فصمت الرجل المتذمّر، ولم يقل سوى آية مُعلّمنا بولس الرسول: " مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الاِسْتِقْصَاءِ! ".
أليس النحات لكي يصنع تمثالاً جميلاً، يكسر ويثقب في المرمر بالمطرقة والأزميل؟ ألا يستخدم الرسام اللون الأسود، بل ويُضيفه إلى الألوان الأُخرى الهادئة الجميلة لتخرج أيقونته كما يريد؟ هكذا الله أيضاً كثيراً ما يستخدم آزاميل التجارب وسواد الأشرار، حتى تظهر صورة الأبرار في أروع منظر لها، فلا تقل أين الله عندما أتألم؟ لأنَّ الله معنا في أحزاننا وفي أفراحنا وهو يعرف احتياجاتنا، قد لا يُبعد عنا الضيقات، ولكنه يعطينا القوة حتى نجتازها، وإن كان في بعض الأحيان يبدو ساكتاً، إلاَّ أنَّه كما قال صفنيا النبيّ: " يَسْكُتُ فِي مَحَبَّتِهِ " (صفنيا17:3)، وإن كان الله لم يعطنا وعداً بأن تكون سماء حياتنا خالية من الغيوم، إلاَّ أنَّه أعطانا وعداً بأنَّه سيكون معنا بصفة مستمرة كل الأيام: " َهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْتِهَاءِ الدهرِ! " (مت20:28)، فإن " كَانَ اللهُ مَعَنَا فَمَنْ عَلَيْنَا؟! " (رو31:
.
قصة من كتاب عصر القلق
للراهب كـــــــالمحرقي ـــــاراس