تــــابــع رجــال الايـــمــان
ب. أخنوخ:
"بِالإِيمَانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى الْمَوْتَ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ - إِذْ قَبْلَ نَقْلِهِ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى اللهَ" [٥].
إن كان هابيل بإيمانه أعلن عن سرّ ذبيحة المسيح المقبولة عنده، وقبولنا الموت معه كل يوم، فإن حياة أخنوخ حملت بالإيمان صورة حية للكنيسة السماوية الفائقة، والتي تعلو فوق الحياة البشرية الطبيعية، تشهد لسيرتها أمام العالم، لهذا ينقلها الرب إليه لتحيا معه شريكة في أمجاده. يقول الرسول: "فإن سيرتنا نحن هي في السماوات، التي منها ننتظر مخلصًا هو الرب يسوع، الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده".
بالإيمان نتمتع بالحياة السماوية كأعضاء في كنيسة الله المقبولة لدى عريسها،
"وَلَكِنْ بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ، لأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي إِلَى اللهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ يُجَازِي الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ" [٦].
ليت قلبنا يكون بحق كأخنوخ يؤمن بالله فيُنقل إلى فوق لينتظر المجازاة للذين يطلبونه، التي هي بحق اقتناء ربنا يسوع. هذه هي مكافأة النفس التي تطلبه... إنها تناله وتوجد معه في سماواته وأمجاده الأبدية في حضن الآب السماوي.
ج. نوح:
إن كان هابيل يعلن في إيمانه الذبيحة الفريدة التي لا تصمت قط عن الشهادة للحق فينا، وأخنوخ يمثل الكنيسة المرتفعة إلى عريسها لكي تحيا في السماويات عبر وجودها بالجسد على الأرض، فإن نوحًا يمثل إيمانه إدانة العالم الذي رفض الدخول في الفلك، فإنه لا خلاص خارج الفلك، ولا تمتع بالحياة الجديدة إلى خلال مياه المعمودية. "بِالإِيمَانِ نُوحٌ لَمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ عَنْ أُمُورٍ لَمْ تُرَ بَعْدُ خَافَ، فَبَنَى فُلْكًا لِخَلاَصِ بَيْتِهِ، فَبِهِ دَانَ الْعَالَمَ، وَصَارَ وَارِثًا لِلْبِرِّ الَّذِي حَسَبَ الإِيمَانِ" [٧]. إن كانت الكنيسة تمتع بالخلاص في الصليب كما في فلك نوح وسط مياه المعمودية، فإن هذا الخلاص إنما يدين العالم.
لقد اعتاد الآباء أن يقيموا الكنيسة غالبًا على شكل فلك نوح علامة العبور من العالم القديم إلى الحياة الجديدة... وقد سبق لنا الحديث في شيء من التفصيل عن الكنيسة وعلاقتها بفلك نوح، مستندًا على كتابات الآباء الأولين.
د. إبراهيم:
قدم كل أب من الآباء جانبًا من جوانب الإيمان، هابيل قدم الجانب الإلهي وهو تقديم الذبيحة المقدسة، أي تقديم حمل الله، وأخنوخ كشف عن طبيعة الكنيسة المؤمنة ألا وهو الجانب السماوي، ونوح أعلن أنه لا خلاص خارج الكنيسة المقدسة، أما إبراهيم فقدم الجانب العملي للإيمان وهو الطاعة لله بجانب جوانب متفاعلة معًا. لقد آمن إبراهيم أب الآباء عمليًا فترك الملموسات والمنظورات في ثقة في وعود الله التي لم تكن ملموسة ولا منظورة. يقول الرسول:
"بِالإِيمَانِ إِبْرَاهِيمُ لَمَّا دُعِيَ أَطَاعَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يَأْخُذَهُ مِيرَاثًا، فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي. بِالإِيمَانِ تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ الْمَوْعِدِ كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ، سَاكِنًا فِي خِيَامٍ مَعَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ الْوَارِثَيْنِ مَعَهُ لِهَذَا الْمَوْعِدِ عَيْنِهِ. لأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ، الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللهُ" [٨-١٠].
لقد أطاع أن يخرج الذي كان عتيدًا أن يتمتع بالميراث، فخرج وهو لا يعلم إلى أين يذهب. الإيمان هو الذي قاده! لم يسمع من قبل عن أمثلة إيمانية حيَّة يقتدي بها إلاَّ ما قد تسلمه بالتقليد عن هابيل وأخنوخ ونوح، ليس بين يديه كتاب مقدس ولا شريعة مستلمة ولا من يرشده أو نبي أو كاهن، لكن الإيمان أنار له الطريق؛ وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كان أبوه أمميًا وعابد وثن، ولم يسمع أنبياء ولا عرف أين يذهب.] بالإيمان لم ينل أرض موعد، لكنه وثق أن نسله يرث الأرض التي يسير عليها كغريبٍ هو وابنه إسحق وحفيده يعقوب، وكان غير مضطرب وبلا هم، متأكدًا من تحقيق مواعيد الله في الأجيال القادمة الخارجة من صلبه.
هـ . سارة:
وكما قدم لنا الرسول رجال إيمان هكذا يقدم لنا أمثلة حية لنساء مؤمنات مثل سارة التي تمثل الكنيسة المؤمنة بالله واهب القيامة. "بِالإِيمَانِ سَارَةُ نَفْسُهَا أَيْضًا أَخَذَتْ قُدْرَةً عَلَى إِنْشَاءِ نَسْلٍ، وَبَعْدَ وَقْتِ السِّنِّ وَلَدَتْ، إِذْ حَسِبَتِ الَّذِي وَعَدَ صَادِقًا. لِذَلِكَ وُلِدَ أَيْضًا مِنْ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مِنْ مُمَاتٍ، مِثْلُ نُجُومِ السَّمَاءِ فِي الْكَثْرَةِ، وَكَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ الَّذِي لاَ يُعَدُّ" [١١-١٢].
إن كان رجال الإيمان قد ابتدأوا بهابيل الصديق ليعلن الوحي الإلهي ذبيحة السيد المسيح التي لن تصمت بل تبقى عاملة عبر الأجيال، فإن النساء المؤمنات يبتدئن بسارة الأم المباركة التي كانت في حكم الموت، كانت أحشاؤها عاقرًا غير قادرة على الإنجاب ويؤكد موتها شيخوختها! لقد نالت بالإيمان قوة القيامة لتنجب من الأحشاء الميتة أولادًا لله مثل نجوم السماء ورمل شاطيء البحر الذي لا يُعد! لقد قال القديس يوحنا المعمدان لليهود: "لا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبًا، لأني أقول لكم ان الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم" (مت ٣: ٩).
هذا القول لم يكن حديث مبالغة فقد أقام الله بالفعل من الحجارة أولادًا لإبراهيم، إذ كانت أحشاء سارة أشبه بالحجارة التي لا تنجب، في حكم الجماد من جهة إمكانية الإنجاب، وبالإيمان وهبها الله أن يقيم لها من الحجارة أولادًا لإبراهيم. هذا هو إيمان سارة في قيامة السيد المسيح الذي بقيامته أقام من الحجارة أولادًا لإبراهيم ولا يزال يقيم! لقد كان آباؤنا من الأمم كالحجارة إذ يعبدون الوثن الحجري، وتحولوا إلى أولاد إبراهيم بل أولاد الله! لقد حوَّل الإيمان القلوب الحجرية إلى أولاد الله الحيّ!
الإيمان بالوطن السماوي:
إذ طُرد المؤمنون من الهيكل اليهودي وحرموا من ممارسة العبادة الجماعية مع إخوتهم، فإن الرسول يرفع أعينهم إلى هيكل آخر سماوي وعبادة على مستوى ملائكي، ليدركوا أن ما فقدوه من منظورات لا يقارن أمام ما يتمتعون به في عالم غير المنظورات. هذا ليس بأمر خيالي، إنما هو حياة إيمانية تمثل امتدادًا للحياة التي عاشها آباؤهم، محتملين الحرمان من الكثير، لينعموا بالمواعيد السماوية. يقول الرسول: "فِي الإِيمَانِ مَاتَ هَؤُلاَءِ أَجْمَعُونَ، وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا الْمَوَاعِيدَ، بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا، وَأَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى الأَرْضِ. فَإِنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ مِثْلَ هَذَا يُظْهِرُونَ أَنَّهُمْ يَطْلُبُونَ وَطَنًا. فَلَوْ ذَكَرُوا ذَلِكَ الَّذِي خَرَجُوا مِنْهُ، لَكَانَ لَهُمْ فُرْصَةٌ لِلرُّجُوعِ. وَلَكِنِ الآنَ يَبْتَغُونَ وَطَنًا أَفْضَلَ، أَيْ سَمَاوِيًّا. لِذَلِكَ لاَ يَسْتَحِي بِهِمِ اللهُ أَنْ يُدْعَى إِلَهَهُمْ، لأَنَّهُ أَعَدَّ لَهُمْ مَدِينَةً" [١٣-١٦].
هكذا يؤكد الرسول أن رجال العهد القديم، ليس كما يظن البعض قد وضعوا رجاءهم في مواعيد زمنية، وإنما رأوا الوطن السماوي والمواعيد الأبدية مختفية وراء المواعيد الزمنية. لقد تطلعوا بالإيمان إلى وعود الله الأبدية فصدقوها بالإيمان وحيّوها بالعمل الجاد للتمتع بها ولهيب قلبهم الذي لا ينقطع في الشوق إليها. لقد أحسوا أمام هذه الوعود أنهم بحق هم غرباء ينتظرون العبور إلى وطنهم السماوي للتمتع بها، ليس من أمر زمني - مهما كانت قدرته - يستحق أن يسحب القلب إلى الوراء نحو الأرضيات. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:
[حقًا كانوا في أوجاع الطلق كل يوم، مشتاقين إلى التحرر من هذا العالم ليرجعوا إلى وطنهم. أما نحن فعلى العكس متى أصابتنا حمى نهمل كل شيء ونبكي كأطفالٍ صغار خائفين من الموت. لسنا بلا سبب نفعل هذا، فإننا إذ لا نعيش هنا كغرباء ولا نسرع نحو وطننا نكون كمن يذهب لينال العقوبة لهذا نحزن. إننا لا نسلك كما ينبغي لكننا نقلب الأوضاع رأسًا على عقب. نحزن حينما يليق الفرح، ونرتجف كالمجرمين ورؤساء العصابات عندما يُقدمون إلى كرسي القضاء، متذكرين ما ارتكبوه فيخافون ويرتعبون.]
يشتهي رجال الإيمان وطنهم السماوي، لهذا يُسر الله بهم، فيدعى إلههم لأنه أعد لهم المدينة السماوية التي فيها يجتمعون معه ويسكن هو في وسطهم إلى الأبد، يفرح بأولاده ويفرحون بأبيهم السماوي. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [آه! يا لعظم الكرامة! لقد وهبهم أن يدعى إلههم... فإنه يتمجد عندما يدعى إلها للصالحين والمترفقين والذين يهتمون بالفضيلة.] لقد سبق في دراستنا للعهد القديم أن رأينا الله يعتز بنسب نفسه إلهًا للمباركين ولا ينسب نفسه إلهًا للأشرار مع أنه إله الكل! ويحسب الشعب "شعبه" حينما يكون مقدسًا، أما عند صنعه الشر فلا يدعوه "شعبي" بل "الشعب" أو "شعبك" (شعب موسى